والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم ، قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله |
|
عار عليك إذا فعلت عظيم |
وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضا «وتخونوا أمانتكم» على إفراد الأمانة ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) معناه فرقا بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و «الفرقان» مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان هاهنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه مخرجا ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [الخفيف]
بادر الأفق أن يغيب فلمّا |
|
أظلم اللّيل لم يجد فرقانا |
وقال الآخر : [الرجز]
ما لك من طول الأسى فرقان |
|
بعد قطين رحلوا وبانوا |
وقال الآخر : [الطويل]
وكيف أرجّي الخلد والموت طالبي |
|
ومالي من كأس المنيّة فرقان |
وقوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، يشبه أن يكون قوله (وَإِذْ) معطوفا على قوله (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال : ٢٦] ، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام ، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب ، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية ، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم ، الحديث المشهور ، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية ، والمكر المخاتلة والتداهي ، تقول : فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد ، ويقال أصل المكر الفتل ، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه ، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم : ممكورة ، فمكر قريش بالنبي صلىاللهعليهوسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره ، وتدبير قريش على رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرا وما استسروا به هو المكر ، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلىاللهعليهوسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك ، قال : يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج ، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟ قال : ربي ، قال : إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.
قال القاضي أبو محمد : وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى