وأمر الله عزوجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب الله عزوجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضا الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور «دبره» بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبره» بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله (يَوْمَئِذٍ) فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] ولم يقع على ذلك تعنيف.
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب (يَوْمَئِذٍ) إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله (إِذا لَقِيتُمُ) وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفوا عن كبيرة ، و (مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم (مَنْ) ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي.
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفا وتحيزا ، والفئة هاهنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون الفئة المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون.
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مرارا ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : «أنا فئة المسلمين» حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اتقوا السبع الموبقات» وعدد فيها الفرار من الزحف ، و (باءَ) بمعنى نهض متحملا للثقل المذكور في الكلام غضبا كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عزوجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفة ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.