لم يتفرقا إلا بيع الخيار» ، وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما ـ وهما الراويان ـ أنه افتراق الأبدان.
قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهماالله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النبأ : ١٣٠] فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليهالسلام : «لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا يبع الرجل على بيع أخيه» فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختار ربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليهالسلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييرا بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمهالله : قوله عليهالسلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا يبع تجوزا في لا يسم ، إذ ماله إلى البيع ، فهي جميعا بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعا.
قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار» معناه عند المالكيين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعا يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قرأ الحسن «ولا تقتّلوا» على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلىاللهعليهوسلم احتجاجه.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) اختلف المتأولون في المشار إليه بذلك ، فقال عطاء : ذلك عائد على القتل لأنه أقرب مذكور ، وقالت فرقة : ذلك عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس ، لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا ، ثم ورد الوعيد حسب النهي ، وقالت فرقة ذلك عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) وقال الطبري : ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً)