قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تسلهم وإياه وقيل : بل بالمعنى أيضا إنما أريد به النبي صلىاللهعليهوسلم وحده ، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء ، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمهالله ، والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء ، (وَإِمَّا) شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب ، وقد لا تلزم كما قال :
إمّا يصبك عدوّ في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة ، وقرأ ابن عامر وحده «ينسّنك» بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد ، إلا أن التشديد أكثر مبالغة ، و (الذِّكْرى) والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي ، ووصفهم هنا ب (الظَّالِمِينَ) متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه ، و (فَأَعْرِضْ) في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه ، ويدل على ذلك (فَلا تَقْعُدْ).
وقوله تعالى :
(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) الآية ، المراد ب (الَّذِينَ) هم المؤمنون. والضمير في (حِسابِهِمْ) عائد على (الَّذِينَ يَخُوضُونَ) ومن قال إن المؤمنين داخلون في قوله : (فَأَعْرِضْ) قال إن النبي عليهالسلام داخل في هذا القصد ب (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، والمعنى عندهم على ما روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت فلا تقعد معهم قالوا : إذا كنا لا نضرب المشركين ولا نسمع أقوالهم فما يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم فنزلت لذلك (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ).
قال القاضي أبو محمد : فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها ، وقال بعض من يقول إن النبي عليهالسلام داخل في (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) وإن المؤمنين داخلون في الخطاب الأول أن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه ، وإنما معناها لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم ، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم ، ويحتمل المعنى أن يكون لهم لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء ، وأما من قال إن الخطاب الأول هو مجرد للنبي صلىاللهعليهوسلم لثقل مفارقته مغضبا على الكفار فإنه قال في هذه الآية الثانية إنها مختصة بالمؤمنين ، ومعناها الإباحة ، فكأنه قال فلا تقعد معهم يا محمد وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم لعلهم يتقون الله في ترك ما هم فيه.
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أشار إليه النقاش ولم يوضحه ، وفيه عندي نظر ، وقال قائل هذه المقالة : إن هذه الإباحة للمؤمنين نسخت بآية النساء قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [النساء : ١٤٠] وكذلك أيضا من قال أولا إلا أن الإباحة كانت بحسب العبادات يقول إن هذه الآية التي في النساء ناسخة لذلك إذ هي مدنية ، والإشارة بقوله : (وَقَدْ نَزَّلَ) [النساء : ١٤٠] إليها بنفسها فتأمله ، وإلا فيجب أن يكون الناسخ