قال القاضي أبو محمد : وهذا أسلوب معنى الآية ، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن و (كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) خبرها ، ويصح أن يكون (إِعْراضُهُمْ) هو اسم كان ويقدر في (كَبُرَ) ضمير وتكون (كَبُرَ) في موضع الخبر ، والأول من الوجهين أقيس ، والنفق السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع ، والسلم الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى ، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم ، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] : [البسيط]
لا يحزن المرء أحجاء البلاد ولا |
|
تبنى له في السماوات السّلاليم |
و (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي بعلامة ، ويريد إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء ، وإما أن «تأتيهم بالآية» من إحدى الجهتين ، وحذف جواب الشرط قبل في قوله (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) إيجاز لفهم السامع به ، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم ، و (لَجَمَعَهُمْ) يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين ، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم ، والهدى الإرشاد ، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه تعالى عن قولهم ، و (مِنَ الْجاهِلِينَ) يحتمل في أن لا يعلم أن الله (لَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ) ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده ، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به ، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وبين قوله لنوح عليهالسلام (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] وقد تقرر أن محمدا صلىاللهعليهوسلم أفضل الأنبياء ، قال مكي والمهدي : والخطاب بقوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) للنبي عليهالسلام والمراد به أمته ، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : وقر نوح لسنه وشيبته ، وقال قوم : جاء الحمل أشد على محمد صلىاللهعليهوسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل العاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب.
قال القاضي أبو محمد : والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجىء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمدصلىاللهعليهوسلم أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلىاللهعليهوسلم.
قوله عزوجل :
(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨)
هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول ، فعبر عن ذلك كله ب (يَسْمَعُونَ) إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات