وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شئت» وقوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه : نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري : «أو عدل» بكسر العين ، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال بعض الناس «العدل» بالفتح قدر الشيء من غير جنسه ، وعدله بالكسر قدره من جنسه ، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي : أنهما لغتان في المثل ، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العدل» بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير ، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية ، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب ، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت ، والإشارة بذلك في قوله (عَدْلُ ذلِكَ) يحتمل أن تكون إلى الطعام ، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصوع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك. ويحتم أن تكون الإشارة ب (ذلِكَ) إلى الصيد المقتول ، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء : الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول ، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، وإن قتل أيلا فعليه بقرة ، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا ، فإن لم يجد صام عشرين يوما ، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.
قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفا حكاهما عنه الطبري مسندين ، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان ، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذوق هنا مستعار كما قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] وكما قال (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) [النحل : ١١٢] وكما قال أبو سفيان : ذق عقق وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة السان ، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس ، والوبال سوء العاقبة ، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله ، وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه : معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحيلا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم ، وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط ، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.
قال القاضي أبو محمد : ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير ، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهمالله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة ، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة ، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ، كما قال الله ، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وقال سعيد بن جبير : رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.