وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب ، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت ، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة ، والإيمان للكافر ليس نفس توبته ، وإنما توبته ندمه على سالف كفره ، وقوله تعالى : (عَلَى اللهِ) فيه حذف مضاف تقديره : على فضل الله ورحمته لعباده ، وهذا نحو قول النبي صلىاللهعليهوسلم لمعاذ بن جبل : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم سكت قليلا ، ثم قال : يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يدخلهم الجنة ، فهذا كله إنما معناه : ما حقهم على فضل الله ورحمته ، والعقيدة : أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا ، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا ، فمن ذلك تخليد الكفار في النار ، ومن ذلك قبول إيمان الكافر ، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلا ، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب ، قال أبو المعالي وغيره : فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على الله بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى ، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط ، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته ، وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته ، كما أخبر عن نفسه عزوجل.
قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه ، وبه أقول ، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الشورى : ٢٥] وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ) [طه : ٨٢] و (السُّوءَ) في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي ، وقوله تعالى : (بِجَهالَةٍ) معناه : بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية ، وليس المعنى أن تكون «الجهالة» ان ذلك الفعل معصية ، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة ، وهذا فاسد إجماعا ، وبما ذكرته في «الجهالة» قال أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ذكر ذلك عنهم أبو العالية ، وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم على أن كل معصية فهي بجهالة ، عمدا كانت أو جهلا ، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي ، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا : «الجهالة» هنا العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها «جهالة».
قال القاضي أبو محمد : يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله ، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [محمد : ٣٦ ، الحديد : ٢٠] وقد تأول قوم قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد : فكأن «الجهالة» اسم للحياة الدنيا ، وهذا عندي ضعيف ، وقيل (بِجَهالَةٍ) ، أي لا يعلم كنه العقوبة ، وهذا أيضا ضعيف ، ذكره ابن فورك ورد عليه ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : (مِنْ قَرِيبٍ) فقال ابن عباس والسدي : معنى ذلك قبل المرض والموت ، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم : معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق ، وأن يغلب المرء على نفسه ، وروى أبو قلابة ، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف ، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر ،