اجتنبه ، وأما (الْأَزْلامُ) فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها. في أحدها «لا» وفي الآخر «نعم» ، والآخر «غفل» ، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي صلىاللهعليهوسلم في وقت الهجرة ، فكانوا يعظمونها ، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وقد يقال لسهام الميسر أزلام ، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضا ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره ، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء (رِجْسٌ) ، قال ابن زيد : الرجس الشر.
قال القاضي أبو محمد : كل مكروه ذميم ، وقد يقال للعذاب ، وقال ابن عباس في هذه الآية (رِجْسٌ) سخط ، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس ، والرجز العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير ، والرجس يقال للأمرين ، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم ، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة ، وقد تقدم تفسير لفظة (الْخَمْرُ) ومعناها. وتفسير (الْمَيْسِرُ) في سورة البقرة ، وتقدم تفسير (الْأَنْصابُ) والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة ، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات ، فقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلىاللهعليهوسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها ، وقال : اللهم بين لنا فيها بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر انتهينا ، انتهينا وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال : صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقال كل فريق : نحن خير منكم ، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها ، وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده ، فيقول هذا فعل فلان بي ، فحدث بينهم في ذلك ضغائن ، فنزلت هذه الآيات في ذلك.
قال القاضي أبو محمد : وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة ، منها قصة حمزة حين جبّ الأسنمة ، وقال للنبي صلىاللهعليهوسلم : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] الآية ، ثم لم تزل النوازل تحزب الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية ، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل ، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير ، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء ، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ، ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب ، وهو مذهب مردود ، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس ، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس ، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام.