وعبر عنه بيدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى :
يداك يدا مجد فكفّ مفيدة |
|
وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق |
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق ، قال أبو عمرو الداني : وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان» ، يقال يد بسطة أي مطلقة ، وروي عنه «بسطان» ، وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) إعلام لمحمد صلىاللهعليهوسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك ، طغوا وكفروا ، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله ، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغيانا ، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان.
وقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) معطوف على قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ) فهي قصص يعطف بعضها على بعض ، و (الْعَداوَةَ) أخص من (الْبَغْضاءَ) لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو ، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس ، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل ، وقوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم ، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور ، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة ، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد : معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله ، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود ، وقوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ) معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل ، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم ، وذلك كقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] وإن كان مالك رحمهالله قد قال في الموطأ : إن السعي في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) إنه العمل والفعل ، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى» ، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة.
قوله عزوجل :
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ