قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقال مجاهد : نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع ، وفي هذا القول نظر ، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور ، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي ، فقال علي من المؤمنين ، والواو على هذا القول في قوله (وَهُمْ) واوا الحال ، وقال قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع ، وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا ، فنزلت الآية مؤنسة لهم.
ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه ، وجاءت العبارة عامة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله ، وحزب الله غالب ، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب ، و (مَنْ) يراد بها الجنس لا مفرد بعينه ، و «الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب ، ومنه قول عائشة في حمنة : وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك ، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم ، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين (هُزُواً وَلَعِباً) والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز ، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة ، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو ، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة ، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلف القراء في إعراب (الْكُفَّارَ) فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة : «والكفار» نصبا ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» خفضا ، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب ، قال أبو علي : حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد : ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا ، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية ، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو (لا تَتَّخِذُوا) ، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم ، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض ، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا» ، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان ، لأنهم أبعد شأوا في الكفر ، وقد قال تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة ، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب ، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون بألسنتهم ، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي حق مؤمنين.
قوله عزوجل :
(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ