وقال لهم : أشيروا عليّ أيها الناس ، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية.
قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلىاللهعليهوسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى ، ويونس أيضا في إيمان بني إسرائيل ، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك ، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها ، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها ، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.
ولما سمع موسى عليهالسلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم ، وقال داعيا عليهم : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) يعني هارون ، وقوله : (وَأَخِي) يحتمل أن يكون إعرابه رفعا إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه ، وإما على العطف على الضمير الذي في (أَمْلِكُ) تقديره لا أملك أنا ، ويحتمل أن يكون إعرابه نصبا على العطف على (نَفْسِي) ، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه ، وقرأ الحسن «إلا نفسي وأخي» بفتح الياء فيهما ، وقوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا) دعاء حرج ، قال السدي ، هي عجلة عجلها موسى عليهالسلام ، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح ، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة ، وقال قوم : المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق ، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه : «فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «وفرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم ، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء ، وقرأ عبيد بن عمير «فافرق» بكسر الراء.
(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ) المعنى قال الله ، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازا لدلالة معنى الكلام على المراد ، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة (أَرْبَعِينَ سَنَةً) وتركهم خلالها (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي في أرض تلك النازلة ، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلا في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام ، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبدا ، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث ، ويروى أن هارون عليهالسلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها ، وروي أن «موسى» عليهالسلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام ، وقيل بستة أشهر ونصف ، وأن يوشع نبىء بعد كمال «الأربعين سنة». وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة ، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين ، وروي أن «موسى» عليهالسلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته ، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق ، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع ، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع. وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعا ، ويروى أن عوجا اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهدا بحجر الماس