قوله : (وُضِعَ) والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله (بِبَكَّةَ) تقديره : استقر ببكة مباركا ، وفي وصف البيت ب (هُدىً) مجازية بليغة ، لأنه مقوم مصلح ، فهو مرشد ، وفيه إرشاد ، فجاء قوله ، (وَهُدىً) بمعنى وذا هدى ، ويحتمل أن يكون (هُدىً) في هذه الآية ، بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعي العالمون إليه.
قوله تعالى :
(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)
الضمير في قوله : (فِيهِ) عائد على البيت ، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه ، وقرأ جمهور الناس : «آيات بينات» بالجمع ، وقرأ أبي بن كعب وعمرو ابن عباس : «آية بينة» على الإفراد ، قال الطبري : يريد علامة واحدة المقام وحده ، وحكي ذلك عن مجاهد.
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى ، واختلف عبارة المفسرين عن «الآيات البينات» فقال ابن عباس : من الآيات المقام ، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا يدل على أن قراءته «آية» بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس ، وقال الحسن بن أبي الحسن : «الآيات البينات» مقام إبراهيم ، وإن من دخله كان آمنا ، وقال مجاهد : المقام الآية ، وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) كلام آخر.
قال القاضي أبو محمد : فرفع (مَقامُ) على قول الحسن ومجاهد على البدل من (آياتٌ) ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم ، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه : هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره : منهن (مَقامُ إِبْراهِيمَ).
قال القاضي : والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل ، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل ، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه ، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، ومن آياته الحجر الأسود ، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم من تعظيمه قبل الإسلام ، ومن آياته حجر المقام ، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليهالسلام ، وقت رفعه القواعد من البيت ، لما طال له البناء فكلما علا الجدار ، ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر ، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليهالسلام كأنها في طين ، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم ، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار ، وقال أبو طالب : [الطويل]