و (الْغَيْبِ) ما غاب عن مدارك الإنسان ، و (نُوحِيهِ) معناه نلقيه في نفسك في خفاء ، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، ثم تختلف أنواعه ، فمنه بالملك ، ومنه بالإلهام ، ومنه بالإشارة ، ومنه بالكتاب ، كما قال كعب بن زهير : [الطويل]
أتى العجم والآفاق منه قصائد |
|
بقين بقاء الوحي في الحجر الأصمّ |
تقول العرب : أوحى ، وتقول وحي ، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليهالسلام ، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم ، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب ، ومحمد عليهالسلام أمي من قوم أميين ، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلىاللهعليهوسلم ، ولديهم معناه عندهم ومعهم ، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل ، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها ، وقال ابن إسحاق : إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعا منها لتحمل مؤونتها ، و (يَخْتَصِمُونَ) معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها ، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا سافر أقرع بين نسائه ، وقال عليهالسلام : لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه ، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قمارا ، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص ، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث ميت فجوزها الجمهور ومنعها أبو حنيفة ، وفي الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم أقرع بين ستة أعبد ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة ، وقوله : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره ، ينظرون ، (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، والعامل في قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) فعل مضمر تقديره اذكر إذ قالت الملائكة وهكذا يطرد وصف الآية وتتوالى الإعلامات بهذه الغيوب ، وقال الزجّاج : العامل فيها (يَخْتَصِمُونَ) ، ويجوز أن يتعلق بقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) وهذا كله يرده المعنى ، لأن الاختصام لم يكن عند قول الملائكة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمر : «إذ قال الملائكة» واختلف المتأولون هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة؟ وقد تقدم معنى ذلك كله في قوله آنفا ، (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ٣٩] فتأمله ، وتقدم ذكر القراءات في قوله (يُبَشِّرُكِ).
واختلف المفسرون لم عبر عن عيسى عليهالسلام (بِكَلِمَةٍ)؟ فقال قتادة : جعله «كلمة» إذ هو موجود بكلمة وهي قوله تعالى : لمرادته ـ كن ـ وهذا كما تقول في شيء حادث هذا قدر الله أي هو عند قدر الله وكذلك تقول هذا أمر الله ، وترجم الطبري فقال : وقال آخرون : بل الكلمة اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فمقتضى هذه الترجمة أن الكلمة اسم مرتجل لعيسى ثم أدخل الطبري تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : «الكلمة» هي عيسى ، وقول ابن عباس يحتمل أن يفسر بما قال قتادة وبغير ذلك مما سنذكره الآن وليس فيه شيء مما ادعى الطبري رحمهالله ، وقال قوم من أهل العلم : سماه الله «كلمة» من حيث كان تقدم ذكره في توراة موسى وغيرها من كتب الله وأنه سيكون ، فهذه كلمة سبقت فيه من الله ، فمعنى الآية ، أنت يا مريم مبشرة بأنك المخصوصة بولادة الإنسان الذي قد تكلم الله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة على أنبيائه ، و (اسْمُهُ) في هذا الموضع ، معناه تسميته ، وجاء الضمير مذكرا من أجل المعنى ، إذ «الكلمة» عبارة عن ولد.