ثلاثة أيام مع الناس ، وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى.
واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير ، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث ، وقال الربيع وغيره : عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام ، وقال قوم من المفسرين : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، ثم استثنى الرمز ، وهو استثناء منقطع ، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها ، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا ، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، أنه منقطع ، وقرأ جمهور الناس (رَمْزاً) بفتح الراء وسكون الميم ، وقرأ علقمة بن قيس ، «رمزا» بضمها ، وقرأ الأعمش «رمزا» بفتحها ، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز ، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به ، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز ، ومنه قول جوية بن عائد: [الوافر]
وكان تكلّم الأبطال رمزا |
|
وغمغمة لهم مثل الهدير |
وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعا من الرمز في تفسيره هذه الآية ، فقال مجاهد : (إِلَّا رَمْزاً) معناه إلا تحريكا بالشفتين ، وقال الضحاك : معناه إلا إشارة باليد والرأس ، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير ، وقال الحسن : أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه ، وقال قتادة : (إِلَّا رَمْزاً) ، معناه إلا إيماء ، وقرأ جمهور الناس : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) بنصب الفعل بأن ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «ألا تكلم» برفع الميم ، وهذا على أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس ، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليهالسلام : لا صمت يوما إلى الليل قول ظاهر الفساد من جهات ، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيرا لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه ، وقال محمد بن كعب القرظي : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليهالسلام حيث قال : «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا» ، لكنه قال له : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) ، وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ) معناه قل سبحان الله ، وقال قوم معناه : صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس ، و «العشي» في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي ، و «العشي» من حين يفيء الفيء ، ومنه قول حميد بن ثور :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه |
|
ولا الفيء من برد العشيّ تذوق |
و «العشي» اسم مفرد عند بعضهم ، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين و (الْإِبْكارِ مصدر أبكر