بالعطف على اسم الله عزوجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به ، (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية. قال بهذا القول ابن عباس ، وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم ، و (يَقُولُونَ) على هذا التأويل نصب على الحال ، وقالت طائفة أخرى : (وَالرَّاسِخُونَ) رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره (يَقُولُونَ) ، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم (آمَنَّا بِهِ) قالته عائشة وابن عباس أيضا ، وقال عروة بن الزبير : إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون ، (آمَنَّا بِهِ) ، وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز ، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس.
قال القاضي رحمهالله : وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق ، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين : ـ محكما ومتشابها ـ فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب ، فيتأول تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] إلى غير ذلك ، ولا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخا ، وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الضمير عائد على جميع متشابه القرآن ، وهو نوعان كما ذكرنا ، فقوله (إِلَّا اللهُ) مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء ، يعلم نوعيه جميعا ، فإن جعلنا قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) عطفا على اسم الله تعالى ، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال ، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه ، وبديهة العقل تقضي بهذا ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول : ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان ، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك ، والآخر إنما أعانك بكلام فقط ، إلى كثير من المثل ، فالمعنى (وَما يَعْلَمُ) تأويل المتشابه إلا الله (وَالرَّاسِخُونَ) كل بقدره ، وما يصلح له ، (وَالرَّاسِخُونَ) بحال قول في جميعه (آمَنَّا بِهِ) ، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله ، وإن جعلنا قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم ، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ، وذلك كله بقريحة معدة ، فالمعنى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) على الاستيفاء إلى الله ، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه ، وهو ترجمان القرآن ، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب (الرَّاسِخُونَ) يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما ، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه ، فأما من يقول : إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى