(مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول : أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء ، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن خبيث ، و (كَسَبْتُمْ) معناه كانت لكم فيه سعاية ، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة ، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه ، إذ الضمير في (كَسَبْتُمْ) إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك ، و (تَيَمَّمُوا) معناه تعمدوا وتقصدوا ، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]
تيمّمت العين التي عند ضارج |
|
يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام |
ومنه قول الأعشى : [المتقارب]
تيمّمت قيسا وكم دونه |
|
من الأرض من مهمه ذي شزن |
ومنه التيم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء ، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف ، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا قصدت ، ومنه إمام البناء ، والمعنى في القراءتين واحد ، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب «ولا تيمّموا» بضم التاء وكسر الميم ، وهذا على لغة من قال : يممت الشيء بمعنى قصدته ، وفي اللفظ لغات ، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته ، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا» بهمزة بعد التاء ، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم ، وقد مضى القول في معنى (الْخَبِيثَ) وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله : (الْخَبِيثَ) ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال : (تُنْفِقُونَ) منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على (الْخَبِيثَ). قال الجرجاني وقال فريق آخر : بل الكلام متصل إلى قوله (فِيهِ).
قال القاضي أبو محمد : فالضمير في (مِنْهُ) عائد على (ما كَسَبْتُمْ) ، ويجيء (تُنْفِقُونَ) كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : إنما أخرج أجاهد في سبيل الله ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم : معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية : لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع ، إلا أن يهضم لكم من ثمنه ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة وقال البراء بن