و (يَسْتَفْتِحُونَ) معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته ، وظنوا أنه منهم ، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم : لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به و (يَسْتَفْتِحُونَ) معناه يستنصرون ، وفي الحديث : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين» ، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب ، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به ، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث ، وما عرفوا أنه محمد عليهالسلام وشرعه ، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم ، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة ، «ولعنة الله» : معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب (لَمَّا) و (لَمَّا) الثانية في هذه الآية. فقال أبو العباس المبرد : جوابهما في قوله : (كَفَرُوا) ، وأعيدت لما الثانية لطول الكلام ، ويفيد ذلك تقريرا للذنب ، وتأكيدا له ، وقال الزجاج : (لَمَّا) الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه؟
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأنه محذوف ، وقال الفراء : جواب (لَمَّا) الأولى في الفاء وما بعدها ، وجواب لما الثانية (كَفَرُوا).
«وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها ، ويقال في «بئس» «بيس» اتباعا للكسرة ، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح ، واختلف النحويون في (بِئْسَمَا) في هذا الموضع ، فمذهب سيبوية أن «ما» فاعلة ببئس ، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام ، فالتقدير على هذا القول : بيس الذي (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا) ، كقولك : بيس الرجل زيد ، و «ما» في هذا القول موصولة ، وقال الأخفش : «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلا زيد» ، فالتقدير «بيس شيئا أن يكفروا» ، و (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) في هذا القول صفة «ما» ، وقال الفراء «بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا» ، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل ، و «ما» إنما تكف أبدا حروفا ، وقال الكسائي : «ما» ، و (اشْتَرَوْا) بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا ، وهذا أيضا معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير ، وقال الكسائي أيضا : إن «ما» في موضع نصب على التفسير وثم «ما» أخرى مضمرة ، فالتقدير بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم ، و (أَنْ يَكْفُرُوا) في هذا القول بدل من «ما» المضمرة ، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون (أَنْ يَكْفُرُوا) في موضع خفض بدلا من الضمير في (بِهِ) ، وأما في القولين الأولين ف (أَنْ يَكْفُرُوا) ابتداء وخبره فيما قبله ، و (اشْتَرَوْا) بمعنى باعوا ، يقال : شرى واشترى بمعنى باع ، وبمعنى ابتاع ، و (بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعني به القرآن ، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهماالسلام فقد كفروا بالتوراة ، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن ، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل ، و (بَغْياً) مفعول من أجله ، وقيل نصب على المصدر ، و (أَنْ يُنَزِّلَ) نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل.