نظرية النظم فى بيئة المتكلمين :
مرّ بنا الجاحظ ونظريته فى الإعجاز وقد أحسّ فى عمق أن المعانى وحدها لا تكوّن الكلام البليغ فالمترجمون مثلا ينقلون معانى دقيقة لفلاسفة اليونان ، وغيرهم ، ومع ذلك لا يمكن أن يتصف كلامهم ولا ما نقلوه بالبلاغة ، فكلامهم يحمل معانى صحيحة ولكن ينقصها فن البلاغة ، من حسن السبك وجمال الرصف والنظم ، وأداه إحساسه بروعة النظم وما يكسبه الكلام من الماء والرونق والحيوية أن يقرر أن إعجاز القرآن فى نظمه ، ويشير فى كتابه الحيوان إلى ذلك قائلا. «وفى كتابنا المنزّل الذى يدلنا على أنه صدق ، نظمه البديع الذى لا يقدر على مثله العباد (١) كما أن له كتاب (آى القرآن) الذى يقول عنه «ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها فضل ما بين الإيجاز والحذف ، وبين الزوائد والفضول والاستعارات ، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز والجمع للمعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة (٢) كما أن له كتاب (نظم القرآن (٣)) وكان يرى رأى العتابى : أن المعانى تحل من الألفاظ محل الروح من البدن (٤).
والأمثلة عديدة لا تحتاج الى إشارة :
وهذا القاضى عبد الجبار ـ المتكلم المعتزلى ـ إن بينه وبين ما كتبه الجرجانى صلة وثيقة يقول القاضى عبد الجبار فى فصل «فى الوجه الذى له يقع التفاضل فى فصاحة الكلام» (اعلم أن الفصاحة لا تظهر فى أفراد الكلام ، وإنما تظهر فى الكلام بالضم ، على طريقة مخصوصة ، ولا بدّ مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة ، وقد يجوز فى هذه الصفة أن يكون بالمواضعة التى تتناول الضم ، وقد تكون بالإعراب الذى له مدخل فيه ، وقد تكون بالموقع ، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع ، لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها ، ولا بدّ من هذا الاعتبار فى كل كلمة ، ثم لا بدّ من اعتبار مثله فى الكلمات ، إذا انضم بعضها إلى بعض ، لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة. وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها ، فعلى هذا الوضع الذى ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه
__________________
(١) الجاحظ ـ الحيوان ـ ٤ / ٩٠.
(٢) نفس المصدر ـ ٣ / ٨٦.
(٣) ابن النديم ـ الفهرست ـ ٦٣ ط التجارية.
(٤) الجاحظ ـ من مجموعة رسائل الجاحظ ـ (رسالة فى الجد والهزل) ١ / ٢٦٢ تحقيق هارون.