الخاطر الداعي إلى الشر في قلب العاقل ليعتدل به دواعيه ويصح منه اختيار أحد الخاطرين ، ولو أفرده بالخاطر الأول لكان ملجأ إلى ما يدعوه إليه لأنه ليس في مقابلته ما يدعوه إلى ضده ولا تكليف مع الإلجاء. وزعموا أيضا أن الرسل قد وردوا بإباحة ما حظره العقل من ذبح البهائم وإيلام الحيوان بلا ذنب وتحميل العاقلة الدية وكذّبوهم لأجل ذلك. وساعدت القدرية البراهمة في التكليف من جهة الخواطر وخالفوهم في إجازة بعثة الرسل. غير أن النظام منهم زعم أن الخاطرين كلاهما من قبل الله تعالى ، يدعو بأحدهما إلى المعرفة والنظر والاستدلال ليفعل المكلف ذلك. ويدعو بالآخر إلى المعصية لا ليفعل ولكن لاعتدال الدواعي. وزعم الباقون منهم أن الخاطرين أحدهما من قبل الله عزوجل والآخر من قبل الشيطان ، سوى من قال منهم إنّ المعارف ضرورية كالجاحظ وثمامة والصالحي فإن هؤلاء زعموا أن لا تكليف إلا على من عرف الله تعالى ومن لم يعرفه لم يكن مكلفا وإنما كان مخلوقا للسخرة والاعتبار به. وهذا القول يوجب على صاحبه أن يكون العوام من عبدة الأصنام والزنادقة والدهرية ناجين من عذاب الآخرة. ومن قال بالتكليف من جهة خاطرين أحدهما من جهة الله تعالى والآخر من جهة الشيطان ، يلزمه أن يكون تكليف الشيطان بخاطرين أحدهما من الله والآخر من شيطان آخر ثم كذلك القول في شيطان آخر والثاني والثالث حتى يتسلسل ذلك لا إلى نهاية. ومن قال بقول النظام فقد صرح بأن الله يدعو إلى شيء لا ليفعل ولو جاز ذلك لجاز أن يأمر بما لا يجوز فعله وينهى عما يجوز فعله. فإن قالت البراهمة ليس بحكيم من أرسل إلى من يعلم أنه يكذّب رسوله. قيل إذا جاز أن يخلق الله من يعلم أنه يكذبه ويجحده ويكفر به جاز أيضا أن يرسل إلى من يعلم منه تكذيب رسوله. وكل ما استدلوا به على إبطال التكليف السمعي ينتقض عليهم بما أجازوه من التكليف العقلي.
المسألة الثالثة من هذا الأصل
في معرفة الرسول بأنه رسول
لا بد للرسول من حجة وبرهان يعلم به أن الله تعالى قد أرسله. ويصح