التفسير :
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أي متنعميهم (بِالْعَذابِ) في الدنيا (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يصرخون استغاثة إذ الجؤار : هو الصراخ باستغاثة فيقال لهم : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) فإن الجؤار غير نافع لكم (إِنَّكُمْ مِنَّا) أي : من جهتنا (لا تُنْصَرُونَ) لا يلحقكم نصر أو معونة ، قال ابن كثير : أي : لا يجيركم أحد مما حل بكم ، سواء جأرتم أو سكتم ، لا محيد ولا مناص ولا وزر ، لزم الأمر ، ووجب العذاب ، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : (قَدْ كانَتْ آياتِي) أي : القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي : ترجعون القهقرى ، النكوص : هو أن يرجع الإنسان القهقرى ، وهي أبشع مشية لأنه لا يرى ما وراءه ، والمعنى : إذا دعيتم أبيتم ، وإذا طلبتم امتنعتم (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي متكبرين بالبيت أو بالحرم عن قبول الحق ، كأنكم أهل الحرم أكبر من أن تكلفوا ، أو مستكبرين بالقرآن ، ومعنى استكبارهم به : تكذيبهم به استكبارا (سامِراً تَهْجُرُونَ) الهجر : الهذيان من القول ، والفحش فيه ، والسمر معروف ، والمعنى : تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن ، وتسميته شعرا وسحرا ، وقال النسفي : والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين ، فيصدقوا به وبمن جاء به (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي بل أجاءهم ما لم يأت أباءهم الأولين ، فلذلك أنكروه واستبعدوه (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) محمدا بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق؟ (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) بغيا وحسدا ، فقد عرفوه بصفاته وأنكروه (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلا ، وأثقبهم ذهنا (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) الأبلج والصراط المستقيم ، وبما خالف شهواتهم وأهواءهم ، وهو التوحيد والإسلام ، ولم يجدوا له مردا ، ولا مدفعا ، فلذلك نسبوه إلى الجنون (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) الأكثرون منهم يعرفون الحق ولا يؤمنون كراهة له ، وبعضهم ـ وهم الأقل ـ لم يكونوا كارهين للحق ـ بل كانوا تاركين للإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ أقوامهم ، وأن يقولوا صبأوا وتركوا دين آبائهم ، كأبي طالب (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) أي الله عزوجل (أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) قال ابن كثير : والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ، وشرع الأمور على وفق ذلك ، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ، أي لفساد أهوائهم