اللفظ للمعنى في القرآن مثلا ذكره ابن كثير ، وذكر بعضا منه النسفي.
فمن الملاحظ أنه في أول مرة أنكر موسى على الخصر. قال له الخضر (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) وفي المرة الثانية قال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فزاد لك هنا لأن النكر فيه كان أكثر. وعند ما أبلغه بالفراق قال : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فذكر التاء في «تستطع» ولما حل له الإشكال قال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي بدون تاء ، قال تسطع بعد أن فسّر له المشكل وبيّنه ووضّحه وأزاله ، وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا فقال : «تستطع» قال ابن كثير : فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف كما قال : (أي في الكلام عن سد يأجوج ومأجوج) (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) وهو الصعود إلى أعلاه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) وهو أشق من ذلك فقابل كلّا بما يناسبه لفظا ومعنى. أقول : وهذه هي سنّة القرآن كله ، إذ نجد كل معنى يختار له اللفظ الأنسب الذي لا يوجد أنسب منه في محله ، وقد تعرضنا لهذا في كتابنا الرسول صلىاللهعليهوسلم في فصل المعجزة القرآنية.
٥ ـ ومن مظاهر الإعجاز في هذا القرآن أنك لا تجد حرفا فيه إلا وهو في محله ، وفي مكانه ، ووجوده فيه في غاية الحكمة ، ويعطي في المكان الذي هو فيه من المعاني العجيب. فمثلا تلاحظ أنّ الخضر لمّا علل لأفعاله الثلاثة قال في الأولى : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وقال في الثانية : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) وقال في الثالثة : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) ففي الثالثة أسند الإرادة إلى الله وحده ، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله ، ولأنه إنعام محض ، فكان كمال الأدب أن يسند الفعل إلى الله. وفي المرة الثانية قال : (فَأَرَدْنا) لأنه إفساد من حيث الفعل ، إنعام من حيث التبديل ، فلم ينسبه إلى نفسه منفردة صراحة ، ولم ينسبه إلى الله صراحة. وفي المرة الأولى قال : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) نسبة إلى نفسه فقط. لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله فكانت دقته في التعبير نموذجا على كمال أدبه ، فهو تعليم لنا ، وأدب من أدب الأولياء مع الله ، وقد دلنا ما رأيناه على ما ذكرنا في أول الفائدة كيف أن هذا القرآن من الدقة بحيث إنّ كل حرف في مكانه ، وكل كلمة في مكانها ، وكلّ آية في مكانها ، وكل سورة في مكانها ، من الكمال بما لا يحيط به إلا الله : ومن ثم فإن المعاني التي تتولد عن دراسة كتاب الله لاحدّ لها.