قال ابن كثير :
(فصل): وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها ، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من مكة إلى بيت المقدس ، وأنه مرة واحدة ، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه ، أو زاد بعضهم فيه ، أو نقص منه ، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهمالسلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة ، فأثبت إسراءات متعددة ، فقد أبعد وأغرب ، وهرب إلى غير مهرب ، ولم يحصل على مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليهالسلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ، ومرة من مكة إلى السماء فقط ، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء ، وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشىء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جدا ، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلىاللهعليهوسلم به أمته ، ولنقله الناس على التعدد والتكرر. قال موسى بن عقبة عن الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، وكذا قال عروة. وقال السدي : بستة عشر شهرا ، والحق أنه عليهالسلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس ، راكبا البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها ـ فصعد فيه إلى السماء الدنيا ، ثم إلى بقية السموات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مر بموسى الكليم في السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزلتهما صلىاللهعليهوسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء. حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي : أقلام القدر بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب ، وألوان متعددة ، وغشيتها الملائكة ، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق. ورأى البيت المعمور ، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندا ظهره إليه ، لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، ورأى الجنة والنار ، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس ؛ رحمة منه ولطفا بعباده. وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما خانت الصلاة. ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ، ومن الناس من يزعم أنه أمّهم في السماء ، والذي تظاهرت به الروايات أنه