وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه ، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط (١) الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم ـ وليت أني فعلت ـ ثم لم يقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فطفت فيهم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، (٢) أو رجلا ممن عذره الله عزوجل ، ولم يذكرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى بلغ تبوك ، فقال : وهو جالس في القوم بتبوك : «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه ، فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت ، والله ما علمنا عليه إلا خيرا ، فسكت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب وأقول : بما ذا أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أظل قادما ، زاح عني الباطل ، وعرفت أني لن أنجو منه بشىء أبدا ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ـ وكانوا بضعة وثمانين رجلا ـ فيقبل منهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم علانيتهم ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه : فقال لي : «ما خلفك ، ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟» فقلت : يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلا ، ولكنه والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله تبارك وتعالى ، والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقض الله فيك» فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلىاللهعليهوسلم لك ،
__________________
(١) ـ أي فات.
(٢) ـ أي : مطعونا في دينه.