شهوات وأهواء ونزعات ، لا بد لها من ضابط يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها ، ولا تتعدى هذا الحد المأمون ، فتؤدي إلى تدمير الحياة وانتكاسها ، وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده ، فلابد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات ـ وهي شتى ـ من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا ، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة ، وكل حكم في مجال الحياة البشرية ؛ ليقوّم به تجربته وحكمه وليضبط به اتجاهه وحركته.
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصّواب كدرجة الوحي ، باعتبار أن كليهما ـ العقل والوحي ـ من صنع الله فلابد أن يتطابقا .. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر ، ولم يقل بها الله سبحانه.
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي ـ حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر ـ إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله .. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة ، ولم يجعل هذه الحجّة هي عقلهم البشري ، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله ـ سبحانه ـ يعلم أن العقل وحده يضل ، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة ، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي ، وهو النور والبصيرة.
والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين ؛ أو أن العلم ـ وهو من منتجات العقل ـ يغني البشرية عن هدى الله ؛ إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك .. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم ، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شىء ؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق ، وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي ، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس ، ويضع له القواعد تكفل له انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة ، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها ـ وفق