حتى يغسل القرآن قلبه مرة بعد مرة ، وكل ذلك بالحق وللحق ، إذا أدركت هذه النقطة تكون قد أدركت حكمة من حكم التكرار ، والتفصيل في القرآن وتكون قد عرفت سببا من أسباب كون القرآن على مثل هذا الترتيب.
فما أعظم كتاب الله ، إذ يذكرنا في سورة على طريقة وبأسلوب وتسلسل ، ثم يذكرنا في سورة أخرى على طريقة وبأسلوب وتسلسل ، ثم وثم ، فإذا وجد القلب الذي يحسن التلقي عن الله ، فإنه لا ينتهي من تلاوة كتاب الله مرة إلا وقد تحقق وتعلق ، ثم إذا كرر زاد التحقق والتعلق حتى يخلص الإنسان لله وكتابه وشرعه ، فإذا رافق هذا عبادة وإقامة فرائض ونوافل ، كان غسيل القلب كاملا ، وشتان بين غسيل القلب هذا ، وغسيل المخ عند الكافرين والظالمين ، ففي عملية غسيل المخ يوضع المعذب والضحية كرها في شروط دقيقة معينة من الخوف والجوع ، وتسلط عليه أنواع الهزء والسخرية فيما هو عليه ، ثم تكرر عليه بعض المعاني بأساليب متعددة ، وطرق متعددة ، ليقلع عما هو فيه ، ويسير فيما يريده جلادوه. أما غسيل القلب ، فمنطلقه الاختيار ، وهدفه الارتقاء ، وظروفه الخوف والخشية ، وأدواته العبادة والصوم والذكر ، وزاده كتاب الله يصفي وينقي ، وشتان بين العدل والظلم ، والحرية والإكراه ، والخوف من الله ، والخوف من الجلادين ، والعبادة والسوط ، والمعاني السافلة الخسيسة ، وكتاب الله.
وشتان بين ما يوصل إلى الجنة ، وما يوصل إلى النار ، وشتان بين الجنة والنار.
تذكير أخير بين يدي سورتي المائدة والأنعام :
نستطيع أن نقول : إنه بعد مقدمة سورة البقرة جاء مقطع يتألف من ثلاثة أجزاء : الجزء الأول منه فصلت فيه سورة النساء ، والجزء الثاني منه فصلت فيه سورة المائدة ، والجزء الثالث منه فصلت فيه سورة الأنعام ، وهذا هو المقطع بأجزائه الثلاثة :
١
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً