يستقبح السوء أول مرة بشدة ، حتى إذا تكرر وقوعه أو تكرر ذكره ، خفت حدة استقباحه والاشمئزاز منه ، وسهل على النفوس أن تسمع ـ بل أن ترى ـ ولا تثور للتغيير على المنكر. ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء ويشاع عنهم ـ وقد يكونون منه أبرياء ـ ولكن قالة السوء تنتشر ؛ وحين يصبح الجهر بها هينا مألوفا ، فإن البرىء قد يتقول عليه مع المسىء ويختلط البر بالفاجر بلا تحرج من فرية أو اتهام ، ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح ، والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء. إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية ـ سبا وقذفا ـ وينتهي انحلالا اجتماعيا ، وفوضى أخلاقية ، تضل فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفرادا وجماعات ، وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض ، وقد شاعت الاتهامات ، ولاكتها الألسنة بلا تحرج. لذلك كله كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء. وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم ، يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم ، في حدود ما وقع عليه منه من الظلم!». ثم يعود السياق إلى قضية الإيمان ليقرر كفر من كفر بالله ، وكفر من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض ، ويناقش طبقة من هؤلاء ، ويعريهم فلنر تتمة المقطع : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) دلت هذه الآية على أن الكفر برسول الله صلىاللهعليهوسلم كفر بالله ورسله جميعا. وقد كفر اليهود بعيسى ومحمد عليهماالسلام ، وكفر النصارى بمحمد صلىاللهعليهوسلم. وهناك من يكفر بكل رسول لله أصلا. ومنهم من لا يؤمن حتى بوجود الله ، ولكن السياق هنا منصب على من يكفر ببعض رسل الله. (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً.) أي : طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر ، ولا واسطة بينهما. وفي هذا رد على كل من يعز عليه أن يسمى كافرا وفي الوقت نفسه لا يعطي قضية الإيمان كل لوازمها. (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا.) أي : أولئك هم الكاملون في الكفر ، وكفرهم حق ثابت لا شك فيه. (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.) أي : وهيأنا للكافرين عذابا مذلا في الآخرة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وليس هذا ـ بعد البعثة المحمدية ـ لأحد إلا لمن تابع محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فأمته تؤمن بكل نبي ، وتؤمن بكل كتاب. (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ.) أي : الثواب الموعود لهم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : غفورا لذنوبهم إن كان لهم ذنوب ، رحيما بهم في