فما من معركة بعد هاتين المعركتين إلا وعبرتاهما ماثلتان : حقق أمر الله فيك ، وقاتل العالم ، وإذا لم تفعل فليس لك قبل بأحد ، لأن العالم في القوانين المادية أقوى منك ، فلنتذكر هذا ولنرجع إلى السياق (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي جبنتم (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي : اختلفتم في التنفيذ الكامل لأمر رسولكم ، إذ أقام الرماة منكم على الجبل وقال لهم : «احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» فلما غنم النبي صلىاللهعليهوسلم وأناخوا عسكر المشركين ، قال بعض الرماة : قد انهزم المشركون فما موقفنا ههنا ، فادخلوا عسكر المشركين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم. وقال بعضهم : لا تخالفوا أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهم أمير الرماة عبد الله بن جبير ، ومعه نفر دون العشرة ، والملاحظ أن الخطاب لجميع المسلمين مع أن الذين تنازعوا هم الرماة فقط ، مما يدل على أن الخلل الذي تحدثه مجموعة يسري على الصف كله ومن ثم ينبغي أن يكون الجميع على الغاية في التربية (وَعَصَيْتُمْ) أي أمر نبيكم بترككم مراكزكم ، واشتغالكم بالغنيمة. (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الظفر وقهر الكافرين. ثم بين علة العصيان فقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) الذين يريدون الدنيا : هم الذين تركوا مراكزهم من الرماة ، ورغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة. والذين يريدون الآخرة : هم الذين ثبتوا في مراكزهم. فصار المعنى العام في الآية : ولقد حقق الله وعده لكم بالنصر ، حتى إذا جبنتم ، واختلفتم في تنفيذ الأمر ، وعصيتم أمر رسولكم ، بسبب خلل نيات بعضكم بأن لم تتمحض للآخرة ، منعكم الله نصره. أو المعنى : ولقد حقق الله لكم وعده إلى وقت فشلكم وتنازعكم وعصيانكم ، فمنعكم بسبب ذلك نصره. قال : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي : ثم كف معونته عنكم فغلبوكم ، وعبر بالصرف على أن الأمر أمره. (لِيَبْتَلِيَكُمْ.) أي : ليختبركم ويمتحنكم بامتحان صبركم على المصائب وثباتكم عندها ، مع علمه ـ عزوجل ـ ولكن عدله اقتضى أن يجازي العبد على ما يعمله لا على ما يعلمه منه. وإذ كان ما حدث هو التجربة الأولى ، والخطيئة الأولى من نوعها ، فإنه ـ عزوجل ـ عامل أصحاب رسوله صلىاللهعليهوسلم بالفضل فقال : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) هذه بشارة من الله لهم ، ويدل ذلك على أنهم ندموا وتابوا على ما فرطوا (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بعدم تسليط الكافرين عليهم ليستأصلوهم ، وعدم متابعة الكافرين القتال حتى ينهوا أمر المسلمين ، وبالعفو وقبول التوبة ، وبغير ذلك من أنواع فضله التي لا تحصى ، فهو ـ جل جلاله ـ متفضل على المؤمنين في جميع الأحوال ، سواء أديل