(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.) في هذه الآية مجموعة أمور منها : أن هذا الخطاب ابتداء لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد أحد ، وقد كان هذا حالهم قبل أحد ، أي : قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو ، وتتحرقون عليه ، وتودون مناجزتهم ، ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونكم فقاتلوا ، وصابروا.
ورؤيتهم الموت : معاينتهم له حين قتل إخوانهم بين أيديهم ، وشارفوا أن يقتلوا.
وفي الآية نوع من التوبيخ ، إذ إن تمنيهم الموت تجاوز الحد المراد ، ولم يعط حقه إذ جاء حقه ؛ والأصل أن المسلم يتمنى الشهادة ؛ لينال كرامة الشهداء ، من غير قصد إلى ما يتضمنه قتله من غلبة الكفار ، بل لينتصر الإسلام ، كمن شرب الدواء من طبيب غير مسلم ، فإن قصده حصول الشفاء ، ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو لله ، وتمني الشهادة شىء ، وتمني الموت شىء آخر ، وتمني لقاء العدو شىء مختلف عنهما. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما ثبت فى الصحيحين : «لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» والصحابة قبيل أحد حرصوا على الموت ، حتى حملوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ نزولا على الشورى ، أن يخرج للقتال خارج المدينة ، ولم يكن ذلك رأيه صلىاللهعليهوسلم ، ثم انهزم قسم كبير عنه. والخطاب وإن كان للصحابة ممن رافق الحادثة ، فهو درس للمسلمين في كل عصر ومصر ، ينبغي أن يحبوا الشهادة ، ولكن الحرص على الشهادة ينبغي أن يرافقه قرار نابع من محض المصلحة. ولما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، وقتل من قتل منهم ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمدا! وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه ، وشاع بين المسلمين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن ، أعطى الله المسلمين درسا في ذلك : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي : قد مضت من قبله الرسل فسيخلوا كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة ، وإلزام الحجة ، لا وجوده بين أظهر قومه ، فيتعلق بوجوده قيامهم بالجهاد ، وبأمر الله. فإذا مات ترك ذلك ولذلك أنكر الله ـ عزوجل ـ على من حصل له ضعف فقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي : رجعتم القهقرى ، والهمزة تفيد الإنكار أن يجعلوا خلو الرسول سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله لم يؤثر على بقاء دينهم متمسكا