أى أخيرا (وَيَقْذِفُونَ) معطوف على قد كفروا ، على حكاية الحال الماضية ، يعنى : وكانوا يتكلمون (بِالْغَيْبِ) ويأتون به (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر. ساحر. كذاب. وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به : الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت : الكذب والزور : وقرئ : ويقذفون بالغيب ، على البناء للمفعول ، أى : يأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه ، وإن شئت فعلقه بقوله (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا ، والغيب : الشيء الغائب ، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وكانوا يقولون : وما نحن بمعذبين ، إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا ، قايسين أمر الآخرة على أمر الدنيا : فهذا كان قذفهم بالغيب ، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة ، لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف (ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة. أو من الردّ إلى الدنيا ، كما حكى عنهم (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً). (بِأَشْياعِهِمْ) بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم (مُرِيبٍ) إما من أرابه ، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. أو من أراب الرجل ، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها ، وكلاهما مجاز ؛ إلا أنّ بينهما فريقا : وهو أنّ المريب من الأول منقول ممن يصح أن يكون مريبا من لأعيان إلى المعنى ، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبىّ إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا (١)»
__________________
ـ طريق المكنية وإثباتهما له تخييل ، كأن أوائل الأمور مضت بأواخرها ، فلما مضت الأوائل ظهرت الأواخر بعد خفائها. ويقال : نأش بالهمز إذا تأخر. ونئيشا : نصب على الظرف ، أى أخيرا ، أى : تمنى في آخر الأمر أن يكون أطاعنى في نصيحتي لما رأى عاقبة أمرى حسنة وعاقبة أمره سيئة ، والحال أنه قد حدثت بعد الأمور السهلة أمور صعبة كانت خفية أوجبت تمنيه ، فهي حال مبينة للمراد من الظرف. أو حدثت بعد الأمور السهلة التي كان يمكنه معها مطاوعتى أمور صعبة تمنعه من التخلص من ربكته ، كما نصحته بذلك أولا فلم يسمع ومضى على رأيه.
(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.