على عامّتهم وضعفتهم وتوهمهم ـ أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب. أو علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعى الباطل إذا دحضت حجته (١) وظهر إبطاله بقولك : هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا. وقرئ : تبينت الجن ، على البناء للمفعول ، على أن المتبين في المعنى هو (أَنْ) مع ما في صلتها ، لأنه بدل. وفي قراءة أبىّ : تبينت الإنس. وعن الضحاك : تباينت الإنس بمعنى تعارفت وتعالمت. والضمير في (كانُوا) للجن في قوله (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أى علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب ، ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه : تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب. روى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال ، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله ، فيسألها : لأى شيء أنت؟ فتقول لكذا ، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة ، فسألها ، فقالت : نبت لخراب هذا المسجد : فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حىّ ، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له وقال : اللهم عم عن الجن موتى ، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون العيب ، وقال لملك الموت : إذا أمرت بى فأعلمنى ، فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلى متكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا. ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة ، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا ، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا ، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، وروى أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ، وليبطل دعواهم علم الغيب. روى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه ، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها ، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه ، وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة : ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فبقى في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.
__________________
(١) قوله «إذا دحضت حجته» في الصحاح : بطلت. (ع)