واو ، على ما في مصاحف أهل مكة ، وهي قراءة حسنة ، لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة : سحرا مفترى. ووجه الأخرى : أنهم قالوا ذلك ، وقال موسى عليه السلام هذا ، ليوازن الناظر بين القول والمقول ، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر :
وبضدّها تتبيّن الأشياء (١)
وقرئ تكون : بالياء والتاء.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٨]
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى
__________________
ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف ، لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير ، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من تحريف الفجار» قال أحمد : وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام ، والقدر الذي يحتاج إلى تجديده هاهنا : أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم ، مثل قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الآية. والمراد والله أعلم : ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين. ومن ذلك ما يروى عن الفاروق رضى الله عنه أنه قال : وإنكم آل المغبرة ذرء النار ، أى : خلقها ، فلئن دلت آية الذاريات ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له ، فقد دلت آية الأعراف على أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم. وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين ، وحمل عموم آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى ، وإن المراد : وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي ، جمعا بين الأدلة ، فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى : هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك ، فوجه مجيء العاقبة المطلقة كثيرا وإرادة الخير بها : أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم ، ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم ، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير ، ومكنهم منها ، وأزاح عللهم ووفر دواعيهم ، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها ، وأن يتخذوها نصب أعينهم ، فأطلقت العاقبة والمراد بها الخير تفريعا على ذلك ، والله أعلم. والحاصل : أنها لما كانت هي المأمور بها والمحضوض عليها ، عوملت معاملة ما هو مراد وإن لم تكن مرادة من كثير من الخلق ، وقال لي بعضهم : ما يمنعك أن تقول لم يفهم كون العاقبة المطلقة هي عاقبة الخير من إطلاقها ، ولكن من إضافتها إلى ذويها باللام في الآي المذكورة ، كقوله (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فأفهمت اللام أنها عاقبة الخير ، إذ هي لهم وعاقبة السوء عليهم لا لهم ، كما يقولون : الدائرة لفلان ، يعنون : دائرة الظفر والنصر. والدائرة على فلان ، يعنون : دائرة الخذلان والسوء ، فقلت : لقد كان لي في ذلك مقال لو لا ورود (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ولم يقل عليهم ، فاستعمال اللام مكان «على» دليل على إيفاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير ، والله أعلم.
(١) من يظلم القرناء في تكليفهم |
|
أن يصبحوا وهم له أكفاء |
ويذمهم وبهم عرفنا فضله |
|
وبضدها تتميز الأشياء |
لأبى الطيب المتنبي ، بمدح هارون بن عبد العزيز ، أى : أنه تظلم أقرانه في تكليفهم أن يكونوا مساوين له ، وفي ذلك مشقة عليهم : كناية عن أنه لا يساويه أحد. وقوله : وبضدها إلى آخره : دليل على ما قبله. ويروى :
تتبين الأشياء ، والمعنى واحد ، أى : الأشياء تعرف بمعرفة معنى أضدادها.