(سَلَكْناهُ) أدخلناه ومكناه. والمعنى : إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين ، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم ، وقد تضمنت معانيه وقصصه ، وصحّ بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به وجحدوه ، وسموه شعرا تارة ، وسحرا أخرى ، وقالوا : هو من تلفيق محمد وافترائه (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ) الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، فضلا أن يقدر على نظم مثله (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) هكذا فصيحا معجزا متحدّى به ، لكفروا به كما كفروا ، ولتمحلوا لجحودهم عذرا ، ولسموه سحرا ، ثم قال (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أى مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم ، وهكذا مكناه وقرّرناه فيها ، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها ، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أى وجه دبر أمرهم ، فلا سبيل أن يتغيروا عماهم عليه من جحوده وإنكاره ، كما قال (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشدّ التمكن ، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ، يريدون : تمكن الشحّ فيه ، لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه (١) ، وهو قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ). فإن قلت : ما موقع (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) من قوله (سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)؟ قلت : موقعه منه موقع الموضع والملخص ، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم ، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا ، أى : سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن : فتأتيهم ، بالتاء يعنى : الساعة. وبغتة ، بالتحريك. وفي حرف أبىّ : ويروه بغتة. فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ...... فَيَقُولُوا)؟ قلت : ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته
__________________
ـ أو من أنى. والاستفهام تعجبي. والفصيح : البين الخالي عن اللكنة والتعقيد. وفغر فاه يفغره ، من باب نفع : فتحه ، أى : والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها ، وإنما يخرج صوتها من صدرها. وشاقه : تسبب له في الشوق ، والعربي : المفصح. والأعجم : الذي لا يفصح من الحيوان ، نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده ، وربما ألحقوه ياء النسب للمبالغة في شدة العجمة وبينه وبين عربى طباق التضاد.
(١) قال محمود : «إن قلت : كيف أسند السلك بصيغة التكذيب إلى ذاته؟ قلت : المراد الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه ، بدليل أنه أسند إليهم ترك الايمان به على عقبه في قوله : لا يؤمنون به» قال أحمد : وما ينقم من بقائه على ظاهره إلا أنه التوحيد المحض والايمان الصرف ، وأن الله تعالى خلق قلوبهم نائية عن قبول الحق. والقدرية لا يبلغون في التوحيد إلى هذا الحد ، والله سبحانه وتعالى أعلم.