فربما قادة التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعىّ رضى الله تعالى عنه أنّ رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت ، لاحتجت إلى أدب ، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو ببيتى ولا بيتكم. والعدوّ والصديق : يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال :
وقوم علىّ ذوى مئرة |
|
أراهم عدوّا وكانوا صديقا (١) |
ومنه قوله تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) شبها بالمصادر للموازنة ، كالقبول والولوع ، والحنين والصهيل (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع ، كأنه قال : ولكن رب العالمين (فَهُوَ يَهْدِينِ) يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح ، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذى بالدم في البطن امتصاصا ، ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة ، وإلى معرفة مكانه ، ومن هداه لكيفية الارتضاع ، إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد ، وإنما قال (مَرِضْتُ) دون «أمرضنى» لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه (٢) وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخم. وقرئ : خطاياي ، والمراد : ما يندر منه من بعض الصغائر ، لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل : هي قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وقوله لسارّة : هي أختى. وما هي إلا معاريض كلام ، وتخييلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت : إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي
__________________
(١) المرة : القوة ، وشدة الجدال ، ويروى : ذوى مبرة ، أى : عداوة أو فخر أو شدة. والعدو والصديق يجيئان للمذكر والمؤنث والمثنى والجمع. يقول : ورب قوم أصحاب قوة على ، أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء.
(٢) قال محمود : «إنما أضاف المرض إلى نفسه لأن كثيرا منه بتفريط الإنسان في مطعمه ومشربه» قال أحمد : والذي ذكره غير الزمخشري أن السر في إضافة المرض إلى نفسه التأدب مع الله تعالى بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى ، ولعل الزمخشري إنما عدل عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام قد أضاف الإماتة إلى الله تعالى وهي أشد من المرض ، فلم يثبت عنده المعنى المذكور ، ولكن المعنى الذي أبداه الزمخشري أيضا في المرض ينكسر بالموت ، فان المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في نفسه ، كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضافه إلى الله تعالى. ويمكن أن يفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب : بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر ، وحكم عام لا يخص ، ولا كذلك المرض. فكم من معافى منه قد بغتة الموت ، فالتأسى بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض ، كان بلاء محققا فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه ، ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما ، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا ، أورده مقرونا بشرط إذا ، فقال (وَإِذا مَرِضْتُ) وكان ممكنا أن يقول : والذي يمرضنى فيشفينى كما قال في غيره ، فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة إلا لذلك ، والله أعلم.