مسامعهم ، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس ، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى ، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين ، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي (أَلا يَتَّقُونَ) بالياء وكسر النون وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون ، كقوله (أَلَّا يَسْجُدُوا).
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ)(١٣)
ويضيق وينطلق ، بالرفع ؛ لأنهما معطوفان على خبر إنّ ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن. والفرق بينهما في المعنى : أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان ، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة ، وفي جملتها نفى انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع ، وذلك كان واقعا ، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت : قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر ، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل : بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت : اعتذارك هذا يردّه الرفع ، لأنّ المعنى : إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به ، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع (١) الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال ، وهرون كان بتلك الصفة ، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله تعالى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) ومعنى (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) : أرسل إليه جبرائيل ، واجعله نبيا ، وآزرنى به (٢) ، واشدد به عضدي ، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء ، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) حيث اقتصر على ذكر طرفى القصة أوّلها وآخرها ، وهما الإنذار والتدمير ، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها ، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله ، فأراد الله إلزام الحجة عليهم ، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما ، فأهلكهم. فإن قلت : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل ، وقد علم أن الله من
__________________
(١) قوله «من الفصحاء المصاقع» في الصحاح «صقع الديك» : صاح. وخطيب مصقع ، أى : بليغ. (ع)
(٢) قوله «وآزرنى به» في الصحاح «آزرت فلانا» : عاونته. والعامة تقول : وازرته. (ع)