جامع على نفسه محنتين ، إحداهما : ذهاب ما أصيب به. والثانية : ذهاب ثواب الصابرين ، فهو خسران الدارين. وقرئ : خاسر الدنيا والآخرة بالنصب والرفع ، فالنصب على الحال ، والرفع على الفاعلية. ووضع الظاهر موضع الضمير ، وهو وجه حسن. أو على أنه خبر مبتدإ محذوف. استعير (الضَّلالُ الْبَعِيدُ) من ضلال من أبعد في التيه ضالا ، فطالت وبعدت مسافة ضلالته. فإن قلت : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين ، وهذا تناقض. قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا ، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به ، ثم قال : يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أو كرّر يدعو ، كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى. وفي حرف عبد الله : من ضره ، بغير لام. المولى : الناصر. والعشير : الصاحب ، كقوله (فَبِئْسَ الْقَرِينُ).
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ)(١٥)
هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى. إن الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة ، فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه ، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه ، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إلى سماء بيته فاختنق ، فلينظر وليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ وسمى الاختناق قطعا ؛ لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. ومنه قيل للبهر : القطع (١). وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد ، حيث لم يقدر على
__________________
ـ وأخرجه ابن مردويه من رواية عطية عن أبى سعيد قال «أسلم رجل من اليهود فذهب ماله وولده ، وتشاءم بالإسلام ـ الحديث نحوه» وإسناده ضعيف وأخرج العقيلي من رواية عنبسة بن سعيد عن أبى الزبير عن جابر قال : «أتى النبي صلى الله عليه وسلم يهودى فأسلم على يديه ، ثم رجع إلى منزله فأصيب في عينه وفي ولده فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال : أقلنى ـ الحديث» ولم يذكر فيه نزول الآية. وعنبسة ضعيف جدا.
(١) قوله «ومنه قيل للبهر القطع» أى تتابع النفس. أفاده الصحاح. (ع)