وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح ، لأنّ ذلك نوع من العلم ، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم ، وأمر بالعمل به (أُولئِكَ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد ، كقوله :
وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأَيَّامِ (١)
و (عَنْهُ) في موضع الرفع بالفاعلية ، أى : كل واحد منها كان مسئولا عنه ، فمسئول : مسند إلى الجار والمجرور ، كالمغضوب في قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) يقال للإنسان : لم سمعت ما لم يحل لك سماعه ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ وقرئ (وَالْفُؤادَ) بفتح الفاء والواو ، قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد ، ثم استصحب القلب مع الفتح.
(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)(٣٨)
(مَرَحاً) حال ، أى : ذا مرح. وقرئ (مَرَحاً) وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تجعل فيها خرقا (٢) بدوسك لها وشدّة وطأتك.
__________________
(١) لو لا مراقبة العيون أريننا |
|
مقل المها وسوالف الآرام |
هل ينهينك أن قتلن مرقشا |
|
أو ما فعلن بعروة بن حزام |
ذم المنازل بعد منزلة اللوى |
|
والعيش بعد أولئك الأيام |
لجرير بن عطية يخاطب نفسه على طريق التجريد ، يقول : لو لا مراقبة النساء للعيون ، أى الرقباء المتطلعين علينا ، لبرزن لنا وأريننا عيونهن التي هي كعيون بقر الوحش ، فمقل المها : استعارة مصرحة ، وكذلك سوالف الآرام. والسالفة : مقدم العنق وصفحته. والآرام : جمع رئم بالكسر والهمز ، وهو الغزال الأبيض ، وأصله «أرآم» بهمز ممدود بعد الراء وزن أحمال ، فقلب إلى ما قبلها. ويجوز أنه جمع ريم بالفتح وهو الغزال الأبيض ، فهمز وقلب. وهل بمعنى قد. أو للتقرير. أى : أنه ينهاك عنهن مقتلهن مرقشا العاشق المشهور. أو فعلهن بعروة العاشق أيضا. وذم : فعل أمر ، كأنه نذكر محبوبته في تلك الديار وتلك الأيام ، فقال : ذم المنازل كلها حال كونها بعد ، أى : غير منزلة اللوى. أو بعد مجاوزتك منزلة اللوى بلازم. واللوى : موضع بعينه من الرمل الملتوى ، وذم الحياة كلها بعد حياتنا في تلك الأيام ، أو ذم مدة الحياة كلها بعد تلك الأيام السابقة ، وأشار لها بما للعقلاء لعظمتها عنده ، ولأن تخصصه بالعقلاء طارئ في الاستعمال كما قيل ويجوز أن بعد ظرف المنازل والعيش وبعض النحاة جعل «ذم» مبنيا للمجهول ، وما بعده مرفوع به على النيابة.
(٢) قال محمود : «معناه لن تجعل فيها خرقا ... الخ» قال أحمد : وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية كفاية في الانزجار عنها ، ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية ، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا ، بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين ، أو شدا طرفا من رياسة الدنيا ، إذ هو يتبختر في مشيه ويترجع ، ولا يرى أنه يطاول الجبال ، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء ، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ، وما ذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه ، وقلبه عن تدبره على مراحل ، والله ولى التوفيق.