(وَإِذا أَرَدْنا) وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل ، أمرناهم (١) (فَفَسَقُوا) أى أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز ، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون فبقى أن يكون مجازاً (٢) ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشرّ ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم. فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض. يقال : أمرته فقام ، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني ، أو فلم يمتثل أمرى. لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأموراً به ، وكأنه يقول : كان منى أمر فلم تكن منه طاعة ، كما أن من يقول : فلان يعطى ويمنع ، ويأمر وينهى ، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير ، دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت : لا يصحّ ذلك ، لأن قوله (فَفَسَقُوا) يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعى إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه ، ونظير «أمر» شاء : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف ، لدلالة ما بعده عليه ، تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك. تريد : لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ـ وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الاساءة ، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة ـ لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم (أَمَرْنا) بكثرنا ، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته
__________________
(١) قوله «أمرناهم ففسقوا» في النسفي : أمرنا مترفيها : متنعميها وجبابرتها. (ع)
(٢) قال محمود : «حقيقة أمرهم أن يقول لهم : افسقوا. ولا يكون هذا ، فقى أن يكون مجازا ... الخ» قال أحمد : نص حسن إلا قوله أنهم خولوا النعم ليشكروا ، فانه فرعه ، على قاعدة وجوب إرادة الله تعالى للطاعة. والحق أنهم خولوها وأمروا بالشكر ، ففسقوا وكفروا على خلاف الأمر ، والأمر غير الارادة على قاعدة أهل الحق ، والله الموفق.