فإن قلت : فما معنى قوله (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ)؟ قلت الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم (١) وعتابا على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) من باب التبكيت ، لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم ، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم : بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم ، إما موركين الذنب (٢) في ضلالهم وإضلالهم على الله ، كما حكى الله عنهم وقالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) ، (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ). وإما أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل : معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم ، أى : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة وأم للتسوية. ونحوه : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) وروى أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ثم يقولون : سواء علينا. فإن قلت : كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ قلت : اتصاله به من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه ، فقالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، يريدون أنفسهم وإياهم ، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ. أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم ، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أى منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً ، كأنه قيل : قالوا جميعا سواء علينا ، كقوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ
__________________
(١) قال محمود : «الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم ... الخ» قال أحمد : لما استشعر دلالة الآية لعقيدة السنة المشتملة على أن الله تعالى مهما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأن هد آية المشركين مما لم يشأه ، ولو شاءها لاهتدوا. وإنما تنشأ هذه الدلالة من إيراد هذا الكلام عن الكفار في دار الحق حين حقت لهم الحقائق وانكشف الغطاء. والمقصود من اقتصاصه : إنذار أمثالهم في الدنيا ، وتحذيرهم من الحسرة والندم في الآخرة إذا حق عليهم العذاب واعترفوا بالحق وقالوا القول المذكور ، وهذا يرشد إلى أنه كلام صحيح المعنى ، فلما فطن الزمخشري لذلك شرع في تقرير تخطئتهم في هذا القول في الآخرة كما خطأهم في الدنيا ، ليتم له اعتقاد أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء ، ومن ذلك هد آية الكفار فان الله تعالى يشاؤها في الدنيا ، لكنها لم تكن. وأنى له ذلك ، وسياق الآية يصوب الكلام المذكور وينذر الغافلين عنه في الدنيا ، ويحذرهم من التورط فيما يؤدى إلى هذا الندم ، حيث لا ينفع ويجر إلى هذه الحسرة ، إذ لا ينجع ، كما أورد كلام الشيطان عقيب ذلك حين يعترف بالحق في دار الحق ، وحيث لا ينفعه إيمانه ، فيقول : إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ... الخ. وإنما سيق تحذيراً وإنذارا اتفاقا ، والله الموفق.
(٢) قوله «موركين الذنب» في الصحاح : ورك فلان ذنبه على غيره ، أى : قرفه به اه ، أى : اتهمه به. (ع)