لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. وقرئ : آلسحر ، على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية ، أى : أىّ شيء جئتم به ، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله : ما جئتم به سحر. وقرأ أبىّ : ما أتيتم به سحر. والمعنى : لا ما أتيت به (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة (لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يثبته ولا يديمه ، ولكن يسلط عليه الدمار (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) ويثبته (بِكَلِماتِهِ) بأوامره وقضاياه. وقرئ : بكلمته ، بأمره ومشيئته.
(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٨٣)
(فَما آمَنَ لِمُوسى) في أوّل أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) إلا طائفة من ذراري بنى إسرائيل ، كأنه قيل : إلا أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل : الضمير في قومه لفرعون ، والذرية : مؤمن آل فرعون ، وآسية امرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه ، وماشطته. فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله (وَمَلَائِهِمْ)؟ قلت : إلى فرعون ، بمعنى آل فرعون ، كما يقال : ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية ، أى على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدل عليه قوله (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يريد أن يعذبهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لغالب فيها قاهر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الظلم والفساد ، وفي الكبر والعتوّ ، بادعائه الربوبية.
(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
__________________
ـ الثاني ، ووبخهم موسى على قولهم الأول. ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما أن لا يكونوا قالوا سوى (أَسِحْرٌ هذا) على سبيل الإنكار حسبما تقدم ، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله ، لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار وبت القول أنه سحر. وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه ، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية ، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني. وحاصل هذا البحث : أن قول موسى عليه السلام (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) إنما حكى فيه قولهم ، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما ، فقال : ما جئتم به آلسحر؟ على قراءة الاستفهام قرضاً بوفاء على السواء ، والذي يحقق لك أن الاستفهام والاخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد : أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) على الوجهين : الخبر والاستفهام ، على ما اقتضته القراءتان ، وهو قول واحد دل على أن مؤدى الأمرين واحد ضرورة صدق الخبر. وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب ، أو إضمار مفعول تقولون. استشكالا لوقوع الاستفهام محكياً بالقول ، والمحكي أولا عنهم الخبر. وقد أوضحنا أنه لا تنافر ولا تنافى بين الأمرين ، فشد بهذا الفصل عرى التمسك ، فانه من دقائق النكت. والله الموفق.