فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة. فان قلت : فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت : هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ، وإنما أحدثوها بعد. وقوله (مِنَ الصَّواعِقِ) متعلق بيجعلون ، أى : من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم ، كقولك : سقاه من العيمة (١). والصاعقة : قصفة رعد تنقض معها شقة من نار ، قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته ، فصعق ؛ أى مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً). وقرأ الحسن : من الصواقع ؛ وليس بقلب للصواعق ، لأنّ كلا البناءين سواء في التصرف ، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول : صقعه على رأسه ، وصقع الديك ، وخطيب مصقع : مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد ، والتاء مبالغة كما في الراوية ، أو مصدرا كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبى ليلى : حذار الموت ، وانتصب على أنه مفعول له كقوله :
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ (٢)
والموت فساد بنية الحيوان. وقيل : عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة الله بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة
__________________
ـ الله قط. ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصوير المحسوسات ، فذلك خليق بذكر الصرائح واجتناب الكنايات والرموز.
(١) قوله «سقاه من العيمة» هي شهوة اللبن ، وقيل شدة شهوته. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر |
|
وذى أود قومته فتقوما |
وأغفر عوراء الكريم ادخاره |
|
وأعرض عن شتم اللئيم تكرما |
لحاتم الطائي. وقيل للأحنف بن قيس. يقول : ورب عوراء ، أى كلمة قبيحة ، قد أعرضت عن المؤاخذة بها فلم تضرني. ورب ذى أود ـ أى اعوجاج ـ كالعصى المعوجة ، قومته وعدلته بالمحاربة فتقوم. وقسم الأعراض إلى قسمين : لكل منهما علة مخصوصة فقال : وأغفر عوراء الكريم ، أى قبيحته ، لأجل ادخارى إياه ، فادخاره : مفعول له نصب بأغفر ، وإن عرف بالاضافة. وأعرض عن شتمي للرجل اللئيم تكرما منى كى لا أكون مثله. ويجوز أن المعنى : عن مؤاخذة اللئيم لشتمه لي تكرما منى. فتكرما : مفعول نصب بأعرض. والقول بأن تكرما علة لأعرض وأغفر : قول من لم يذق طعم الكلام.