تسميته تشبيها بليغاً لا استعارة ؛ لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ، ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه ، لو لا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :
لَدَى أَسَدٍ شَاكِى السِّلاحِ مُقَذَّفٍ |
|
لَهُ لِبَدٌ أَظْفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ (١) |
ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحاً. قال أبو تمام :
ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ |
|
بأَنَّ لهُ حاجَةً في السَّمَاء (٢) |
وبعضهم :
لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبالهِ رَجُلاً |
|
ففِيهِ غَيْثٌ ولَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل (٣) |
__________________
(١) فشد فلم يفزع بيوتا كثيرة |
|
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم |
لدى أسد شاكي السلاح مقذف |
|
له لبد أظفاره لم تقلم |
لزهير بن أبى سلمي من معلقته يمدح حصين بن ضمضم بأنه شد على عدوه بحسن تدبير فلم يفزع بيوتا كثيرة. أو المعنى شد عليه وحده ، فلم يفزع بيوتا ، أى أهل بيوت تساعده. و «حيث» بدل من «لدى» ويحتمل أن لدى لمكان مبهم مضاف لحيث المعنى بإضافته للجملة. وأم قشعم : اسم للمنية. شبهها بالمسافر على طريق المكنية. والرحل تخييل و «لدى» الثاني بدل من الأول. وجرد من الممدوح لكماله في الشجاعة شخصا آخر ، فاستعار له الأسد استعارة تصريحية. وشاكي : أى تام السلاح تجريد ؛ لأنه يلائم المشبه. قال الفراء : هو مقلوب شايك : أى ذى شوكة وحدة. ومقذف : أى ضخم ، كأنه قذف باللحم ورمى به. له لبد : أى شعور متلبدة على منكبيه. أظفاره لم تقلم : كل هذا ترشيح لأنه يلائم المشبه به. وفي قوله أظفاره لم تقلم : نوع من الاطناب يسمى الإيغال ختم به البيت للمبالغة في التشبيه ، كقول الخنساء في أخيها صخر : كأنه علم في رأسه نار.
(٢) لأبى تمام يمدح خالد بن يزيد الشيباني ويدكر أباه. فضمير «يصعد» ليزيد. واستعار الصعود من العلو الحسى للعلو المعنوي على طريق التصريح ، ثم بنى عليه ما ينبنى على العلو في المكان ترشيحا وتتميما للمبالغة في التشبيه ، لأن ذلك الظن لا ينبني إلا على رؤيته صاعدا حقيقة. والظن ـ كالعلم ـ يتعدى بنفسه تارة وبالحرف أخرى. وخص الجهول ليفيد أن ذلك الظن خطأ ، ويشبه أنّ يكون تجريداً للاستعارة ، لكن أخفاه ظهور الترشيح. وأفاد السعد أن ذكر الجهول احتراس من توهم احتياج الممدوح والمقام ، لدعوى أنه في غاية الكمال. واشتهرت روايته لظن بالماضي ، وهو على تقدير القسم وقد : أى والله لقد ظن الجهول ذلك.
(٣) للزمخشري. شبه الممدوح بالغيث في كثرة الخير والكرم ، وبالليث في كثرة الشجاعة ، واستعارهما له على طريق الاستعارة التصريحية ، وبنى على ذلك نهى الناس عن أن يظنوا أن في ثوبه رجلا ، للدلالة على تناسى التشبيه وادعاء الاتحاد. والمسبل : كثير الانسياب ، فهو راجع للغيث. والمشبل الذي كثرت أشباله : أى أولاده من الأسود ، فهو راجع لليث ، ففيه لف ونشر ، وفيه شبه التضاد حيث جمع بين ما يخشى وما يرجى. وفيه الجناس اللاحق بين غيث وليث ، وبين مسبل ومشبل.