جملة التمثيل على سبيل البيان. فإن قلت : قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني؟ (١) قلت : مرجعه الذي استوقد ؛ لأنه في معنى الجمع. وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في : (حَوْلَهُ) ، فللحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى أخرى. فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)؟ قلت : إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر ، فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد. ووجه آخر ، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء. ألا ترى إلى قوله : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) ، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ، ويتهدوا بها في طرق العبث ، فأطفأها الله وخيب أمانيهم. فإن قلت : كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد؟ قلت : هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره. فإن قلت : هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ)؟ قلت : ذكر النور أبلغ ؛ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلا. ألا ترى كيف ذكر عقيبه (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه ، وكيف جمعها ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله (لا يُبْصِرُونَ). فان قلت : فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت : هذا على مذهب قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت ، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح. والفرق بين أذهبه وذهب به ، أن معنى أذهبه : أزاله وجعله ذاهبا. ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله : أخذه (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) ، (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ). ومنه : ذهبت به الخيلاء. والمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه ، (وما يمسك فلا مرسل له) فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم. وترك : بمعنى طرح وخلى ، إذا علق بواحد ، كقولهم : تركه ترك ظبى ظله. فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير ، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :
__________________
(١) قوله «فما مرجعه في الوجه الثاني» لعله السابق. (ع)