وكانوا خمسة آلاف رجل ، ما فيهم امرأة ولا صبىّ (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أى لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ ، إلا لأجل المعصية والاعتداء ، لا لشيء آخر ، ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ) لا ينهى بعضهم بعضاً (عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) ثم قال (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) للتعجيب من سوء فعلهم ، مؤكداً لذلك بالقسم ، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير ، وقلة عبثهم به ، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فان قلت : كيف وقع ترك التناهى عن المنكر (١) تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت : من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهى ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهى حسبما للفساد فكان تركه على عكسه. فإن قلت : ما معنى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهى بعد الفعل؟ قلت : معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله ، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) هم منافقو أهل الكتاب ، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذمّ ، ومحله الرفع ، كأنه قيل : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم. والمعنى : موجب سخط الله. (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ) إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين (أَوْلِياءَ) يعنى أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم ، وأنّ إيمانهم ليس بإيمان (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) متمرّدون في كفرهم ونفاقهم. وقيل معناه : ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدّعون ، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون.
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت كيف وقع ترك التناهي ... الخ»؟ قال أحمد : وفي هذا التوبيخ الاخبار بأمرين قبيحين ، أحدهما : بأنهم كانوا يفعلون المناكر ، والآخر : أنهم كانوا تاركين للنهى عنها ، أى عن أمثالها في المستقبل ولو لا زيادة (فَعَلُوهُ) لما صرح بوقوعها منهم ، ولكان المصرح به ترك النهى عن المنكر عند استحقاق النهى ، وذلك حين الاشراف على تعاطيه وظهور الأمارات الدالة عليه ، فانتظم ثبوت الأمرين جميعاً على أخصر وجه وأبلغه وقد دلت هذه الآية على المذهب الصحيح الأشعرى ، من أن متعلق النهي فعل وهو الترك ، خلافا لأبى هاشم المعتزلي في قوله «إن متعلقه نفى محض وعدم صرف ، ووجه دلالة الآية على أن متعلقه فعل أنه عبر عن ترك التناهى الذي وقع توبيخهم عليه بالفعل ، حيث قال : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أى لبئس الترك للتناهي فعلا ، كما تقول : زيد بئس الرجل ، فتجعل الرجل واقعا على زيد. وقد سمى تركهم للنهى عن المنكر في الآية السالفة قبل هذه صنعا ، فقال : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) إلى قوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) وذلك أبلغ في الدلالة على أن متعلق النهى أمر ثابت ، إذ الصنع أمكن من الفعل في الدلالة على الإثبات ، وقد مر هذا التقرير ، والله الموفق.