ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى ، كما قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من سائر كتب الله ، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها ، فكأنها أنزلت إليهم ؛ وقيل : هو القرآن. لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) عبارة عن التوسعة. وفيه ثلاث أوجه : أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل (١) منها من رؤس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) طائفة حالها أمم (٢) في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هي الطائفة المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى ، و (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم ، وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٦٧)
(بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً (٣) ، ولا خائف أن ينالك مكروه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك
__________________
ـ وإن كانت التقوى على أصل موضعها الخوف من الله عز وجل ، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر. وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض. وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، وإن زنى أو سرق» كررها النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ، ثم قال : وإن رغم أنف أبى ذر ، لما راجعه رضى الله عنه في ذلك. ونحن نقول. وإن رغم أنف القدرية.
(١) قوله «ما تهدل» أى استرخى وتدلى. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) قوله «أمم» أى يسير. أفاده الصحاح. (ع)
(٣) قال محمود : «معناه بلغ غير مراقب في التبليغ أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) معناه: وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك فما بلغت رسالته ، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط. وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من البعض ، فكأنك أغفلت أداءها جميعها ، كما أن من يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لادلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم الشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ ، مؤمنا به غير مؤمن ، إلى أن قال : «فان قلت وقوع قوله : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه إذا لم تمثل ... الخ» قال أحمد : وهذا الاتحاد بين الشرط والجزاء ظاهر ؛ لأن حاصله إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة ، باتحاد المبتدأ والخبر ، حتى لا يزيد الخبر عليه شيئا في الظاهر كقوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري
فجعل الخبر عن المبتدإ بلا مزيد في اللفظ ، وأراد : وشعري شعري المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته ، ولكنه أفهم بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين ، لاشتهاره بها ، ـ