فالذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون ، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ، ويجاهدوا في سبيل الله حق الجهاد ، والذين يبيعون هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها ، والمعنى : إن صدّ الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون ووعد المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفا على سبيل الله أى في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين ، ومنصوبا (١) على اختصاص يعنى واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين لأنّ سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدى الكفار من أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد ، وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر ، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا ، قال ابن عباس : كان ينصر الضعيف من القوى حتى كانوا أعز بها من الظلمة. فإن قلت : لم ذكر الولدان؟ قلت : تسجيلا بإفراط ظلمهم ، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين ، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم ، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا ، كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء ، وعن ابن عباس : كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان ، ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر ، وبالولدان العبيد والإماء ، لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة ، وقيل للولدان
__________________
ـ لابن مفرغ. باع غلامه بردا عند انصرافه من سجستان إلى البصرة ، فندم على ذلك ودعا على نفسه بالقتل. ويقال : اشتراه إذا أخذه ودفع ثمنه. وشراه إذا دفعه وأخذ ثمنه. وكانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير هامة ، أى بومة تزقو وتصيح : أدركونى ، أدركونى حتى يؤخذ بثأره. والصدى : ذكر البوم. والمشرق ـ كمعظم ـ واليمامة : موضعان بعينهما بينهما مفازة. فقوله «كنت هامه» كناية عن أن يكون قتيلا. ويا للتنبيه أو للنداء. والمنادى محذوف وهامة بيان أو بدل من هامة الأولى ، وغايرتها بانضمام الصفة إليها وهي قوله «تدعو صدى» أى تصيح على ذكرها. وهذا من المبالغة في الاشارة واللطف في العبارة ، حيث ضرب عن جانب المعنى المراد صفحا ، حتى كأنه يتكلم في هامة حقيقية تزقو على ذكرها ، بل أنها هامة تطير وتصيح مع الهامات في المفاوز ، وبعد هذا فالكلام مجاز عن شدة تحسره وتحزنه وندمه على ما فعل.
(١) قال محمود : «يجوز أن يكون المستضعفين مجروراً ـ إلى قوله ـ ومنصوبا ... الخ» قال أحمد : وفيه على هذا مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين : إحداهما ـ التخصيص بعد التعميم فانه يقتضى إضمار الناصب الذي هو اختص ، ولو لا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر ، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق.