قوله تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) كأنه قيل إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أنّ المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد : لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً) أى ارتكبه وهو مفتر مفتعل ما لا يصح كونه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)(٥٠)
(الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) اليهود والنصارى ، قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. وقيل : جاء رجال من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب؟ قال : لا. قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار (١). فنزلت. ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. فإن قلت : أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله إنى لأمين في السماء أمين في الأرض» (٢)؟ قلت : إنما قال ذلك حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه. وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتدّ بها ، لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى يزكى من يشاء : يزكى المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أى الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم. أو
__________________
ـ فيهما من لم يتب ، فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة. وتعليقها بالآخر مطلقاً ، إذ هما سيان في استحالة المغفرة. وإما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك : إنه لا يغفر ، والتائب من الشرك مغفور له ، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر ، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ، ومع الكبائر التوبة ، حتى تنزل الآية على وفق معتقده ، فيحملها أمرين لا تحمل واحداً منهما : أحدهما : إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ، ولا دليل عليها فيما ذكر. وأيضاً لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا ، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل ، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء. الثاني أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر. وما هذا إلا من جعل القرآن تبعاً للرأى ، نعوذ بالله من ذلك. وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليهم المثل السائر «السيد يعطى والعبد يمنع» لأنّ الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر إن شاء ، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ، ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح ، التي هي بالفساد أجدر وأحق.
(١) ذكره الثعلبي عن الكلبي قال : نزلت هذه الآية في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم ـ فذكره» وسنده إلى الكلبي في أول الكتاب.
(٢) لم أجده.