ليت عبد الله بن أبىّ يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ : يا قوم ، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حىٌّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين : أنه مرّ بأنصارى يتشحط في دمه ، فقال يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل ، فقال : إن كان قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم. والمعنى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن الغرض من بعثة الرسل (١) تبليغ الرسالة وإلزام الحجة ، لا وجوده بين أظهر قومه (أَفَإِنْ ماتَ) الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، لا للانقلاب عنه. فإن قلت : لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت : لكونه مجوّزا عند المخاطبين. فإن قلت : أما علموه من ناحية قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؟ قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة. ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا ، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذ لا لهم. والانقلاب على الأعقاب : الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل : الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه (٢) (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) فما ضر إلا نفسه ، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين ، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. المعنى : أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلا ، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من الله. وهو على معنيين : أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك.
__________________
(١) قوله «من بعثة الرسل» لعله الرسول. (ع)
(٢) قوله «وإسلامه» أى : تركه للعدو. (ع)