كما قالت ليلى الأخيلية :
وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلَإِ |
|
الْجِفَانَ سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ (١) |
فإن قلت : فما معنى قوله (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ)؟ قلت : فيه أوجه : أحدهما أنّ الصرٌّ في صفة الريح بمعنى الباردة ، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ ، كما تقول : برد بارد على المبالغة. والثاني:
أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله. والثالث : أن يكون من قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ومن قولك : إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. قال :
وَفِى الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِى (٢)
__________________
(١) كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ |
|
بنجد ولم يطلع من المتغور |
ولم يغلب الخصم الألد ويملأ |
|
الجفان سديفا يوم نكباء صرصر |
لليلى الأخيلية ترثى صاحبها توبة بن الحمير وتتذكر أحواله وتعد مناقبه. وفتى الفتيان : أى هو الفتى من بينهم وليسوا فتيانا بالنسبة له وإن كانوا فتيانا في أنفسهم ، وتوبة بدل. ولم ينخ من أناخ بعيره ، خبر كأن ، أى كأنه لم ينخ بعيره بمحل مرتفع. ويروى : لم يسر بنجد ، ولم يطلع من أطلع بمعنى طلع ، أو لم يطلع بعيره من المتغور على اسم المفعول ، أى المكان المنخفض ما فيه ، وكأنه لم يغلب الخصم الشديد الخصومة. ويروى الخصم الصحاح بفتح الصاد ، بمعنى الصحيح ، وكأنه لم يملأ الجفان سديفاً ، أى قطعاً بيضا من السنام في زمن الريح الشديدة الباردة ، أو كثيرة الصرير وهو التصويت تعنى أنه كان يفعل ذلك كله ، ثم كأنه اليوم لم يفعل لموته.
(٢) لقد زاد الحياة إلى حبا |
|
بنانى إنهن من الضعاف |
أحاذر أن يرين البؤس بعدي |
|
وأن يشربن رنقا بعد صاف |
وأن يعرين إن كسى الجواري |
|
فتنبو العين عن كرم عجاف |
ولو لا هن قد سويت مهري |
|
وفي الرحمن للضعفاء كافى |
لأبى خالد الخارجي. وقيل : لمحمد بن عبد الله الأزدى. وقيل : لعمران بن حطان. وقيل غير ذلك ؛ لامه قطري ابن الفجاءة عن التخلف عن الحرب فاعتذر بذلك. وبناتي فاعل زاد. وأحاذر أى أخاف أن يدركهن الفقر بعد موتى ، وكنى عن ذلك برؤيتهن له مبالغة ، لأنه إذا خاف الرؤية خاف اللحوق. ويروى مخافة أن يذقن البؤس ، أى الشدة ، فشبهه بمطعوم على سبيل المكنية والذوق تخييل. ورنق الماء كدر ، وترنق تكدر ، ورنقه وأرنقه كدره ، والرنق بالتحريك مصدر كالكدر فسكن وأريد منه الماء الكدر. وروى «زيفا» أى مغشوشا مكدرا ، فالمراد واحد ، فشبه العيش المنغص به ، وشبه العيش الناعم بالماء الصافي على طريق التصريح والشرب ترشيح ، وكسى بوزن فرح لازم ضد عرى. ويجوز هنا بناؤه للمجهول ، من كسى المتعدي كدعا. وإن للشرط المجرد عن الشك أو بمعنى إذ. وتنبو ترتفع عنهن ، كناية عن عدم التزوج بهن. والكرم بالسكون ، وقيل ـ بالكسر ـ وصف من الكرم يقع على الواحد والمتعدد مذكراً ومؤنثا. ويروى «عن رم» أى باليات ، وهو أشبه بالسياق. والعجاف جمع عجفاء ، أى مهزولة ، أى لا يلتفت إليهن مع كونهن كريمات لهزالهن ورثاثة حالهن. وسويت مهري : وضعت عليه آلات الحرب ومهدته وهيأته لها. ويروى «قد سموت مهري» ولعله بتخفيف الميم بمعنى علوت عليه وركبته وقيل : بمعنى وضعت عليه سمات الحرب ، فلعله مقلوب. و «سمت» وروى سومت بالتشديد ، وهو الذي يصلح أنه بمعنى جعلت عليه علامات الحرب لا ذاك ، وجود من جانب الله عز وجل شخصا كافيا ، ولا حجر في المبالغة لا سيما على العرب. وفيه نوع استرجاع إلى الله وتفويض إليه وتوكل عليه ، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين.