حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعنى ذمّة الله وذمّة المسلمين ، أى لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) استوجبوه (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) كما يضرب البيت على أهله ، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها ، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله أى ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، ثم قال (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أى ذلك كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده ليعلم أنّ الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط الله ، وأنّ سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر. ونحوه (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) ، (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ).
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١٦)
الضمير في (لَيْسُوا) لأهل الكتاب ، أى ليس أهل الكتاب مستوين. وقوله (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) كلام مستأنف لبيان قوله : (لَيْسُوا سَواءً) كما وقع قوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بيانا لقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ، أمّة قائمة : مستقيمة عادلة ، من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود ، لأنه أبين لما يفعلون ؛ وأدل على حسن صورة أمرهم. وقيل عنى صلاة العشاء ، لأن أهل الكتاب لا يصلونها. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم (١) ، وقرأ هذه الآية. وقوله (يَتْلُونَ) و (يُؤْمِنُونَ) في محل الرفع صفتان لأمّة ، أى أمّة قائمة تالون مؤمنون ، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل
__________________
(١) أخرجه النسائي وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار ، كلهم من رواية عاصم عن زرعة.