وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم ، لا تحريم قديم كما يدعونه ، فروى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين ، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بزعمه أن ذلك كان محرما على بنى إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.
(قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٩٥)
(قُلْ صَدَقَ اللهُ) تعريض بكذبهم كقوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم ، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٩٧)
(وُضِعَ لِلنَّاسِ) صفة لبيت ، والواضع هو الله عز وجلّ ، تدل عليه قراءة من قرأ (وُضِعَ لِلنَّاسِ) بتسمية الفاعل وهو الله. ومعنى وضع الله بيتا للناس ، أنه جعله متعبداً لهم ، فكأنه قال : إن أوّل متعبد للناس الكعبة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال : «المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما؟ قال : «أربعون (١) سنة». وعن علىّ رضى الله عنه أن رجلا قال له : أهو أوّل بيت؟ قال : لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من
__________________
(١) متفق عليه من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع للناس قال : المسجد الحرام. قلت : ثم؟ قال : بيت المقدس. قلت : كم بينهما؟ قال أربعون عاما ، ثم الأرض لك مسجد فحيث أدركتك الصلاة فصل».